سورة البقرة - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قال السّدي: {خَتَمَ اللَّهُ} أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قال: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم، قال ابن جريج: الختم على القلب والسمع.
قال ابن جُرَيْج: وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله.
وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه- يعني: الكف- فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ.
وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضُمّ.
وقال بأصبع أخرى وهكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع.
وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك: الرين.
ورواه ابن جرير: عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن مجاهد، بنحوه.
قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إخبار من الله عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.
قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.
قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده- تعالى الله عنه في اعتقاده- ولو فهم قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال، والله أعلم.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وذكر حديث تقليب القلوب: «ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا». الحديث.
قال والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عَجْلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]».
وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي، عن قتيبة، عن الليث بن سعد، وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان، به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحَلّه رباطه عنها.
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، وقوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة- وهي الغطاء- تكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.
قال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} والغشاوة على أبصارهم.
وقال: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، يعني ابن داود، وهو سُنَيد، حدثني حجاج، وهو ابن محمد الأعور، حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقال {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23].
قال ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل، تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع، على محل {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وقول الشاعر:
عَلَفْتُها تبنًا وماء باردًا *** حتى شَتتْ هَمَّالَةً عيناها
وقال الآخر:
ورأيت زَوْجَك في الوغى *** متقلِّدًا سيفًا ورُمْحًا
تقديره: وسقيتها ماء باردًا، ومعتَقِلا رمحًا.
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور، تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا، فقال تعالى:


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه.
وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان، عليه الصلاة والسلام، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكْرِمة، أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.
وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية، والحسن، وقتادة، والسدي.
ولهذا نبَّه الله، سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خَيْر، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أي: يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها؛ كما أكَّدوا قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} وليس الأمر كذلك، كما أكْذبهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم، بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وبقوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
ومن القراء من قرأ: «وَمَا يُخَادِعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ»، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد.
قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟
قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له خائف، مخادعا، فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر، مستبطن، وذلك من فعلِه- وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا- فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها، ويُسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومُجرّعها بها كأس عذابها، ومُزيرُها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته نفسه، ظنًا منه- مع إساءته إليها في أمر معادها- أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم عليها ربهم بكفرهم، وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.
وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا عليّ بن المبارك، فيما كتب إليّ، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا محمد بن ثور، عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك.
وقال سعيد، عن قتادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} نعت المنافق عند كثير: خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها.


قال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: شَكٌّ، {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: شكًّا.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: شك.
وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.
وعن عكرمة، وطاوس: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني: الرياء.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: نفاق {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: نفاقا، وهذا كالأول.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قال: زادهم رجسًا، وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125] قال: شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
وقوله {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقرئ: {يكذّبون}، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه السلام، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين: أنه قال لعمر: «أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه» ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه، قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك، رحمه الله: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه.
قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل». ومعنى هذا: أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} الآية [الحديد: 14]، فهم يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث، ومنها ما قاله بعضهم: أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده، عليه السلام، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم. قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا. أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.
تنبيه:
قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة. ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: «إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه» وفي رواية في الصحيح: «إني خيرت فاخترت» وفي رواية: «لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8